قراءة في رواية “أبناء الطين” – للكاتب والروائي السوري: أحمد عبد الكافي الحمادة

الكاتب: النهار
التاريخ: ١٣ مارس ٢٠٢٤
بقلم: د. محمد إبراهيم العبدالله

تحملك رواية “أبناء الطين” للكاتب الروائي أحمد عبد الكافي الحمادة إلى عوالم غرائبية جديدة تتشابك فيها الأحداث وتتداخل على نحو لافت. تظهر الرواية على صعيد الشكل قدرة الكاتب على توظيف الحدث وتأطيره داخل سياق متماسك، مستخدمًا تقنيات سردية حديثة كـ”الخطف خلفًا”، و”تيار الوعي”، والغوص في أعماق النفس الإنسانية، لتصوير الأحلام والهواجس والمخاوف التي تلازم الشخصيات.

يختلط الواقع بالخيال، والحلم باليقظة، ويُترك القارئ ليعيش الحدث كأنما يقع أمامه. الرواية تكشف عبر السرد المؤطر عن الفقر والوجع وانعدام الأمن في قرية “الشلال”، الواقعة جنوب حلب على أطراف البادية.

زمن الرواية مضى عليه وقت طويل، وما يُروى عنها يُتناقل مشافهة بين الأجيال. لذلك تتعدد الأصوات، فكل راوٍ يستعيد ذاكرته ليروي ما علق فيها من أحداث. يقول السارد: “مات الأب وترك القرية، والعمة تحكي القصة للراوي، والراوي يحكيها لخالد، وخالد السارد الرئيس يسردها بلغة المواجع والآلام”.

تحكي الرواية قصة القرية التي هجرتها الرجال بعد غزو بدوي، ولم يبق فيها سوى النساء وخالد الطفل المعاق. تلجأ النساء إلى كهف في الجبل، يواجهن الذئاب والحيوانات المفترسة، وتنجح أم خالد بخبرتها في إنقاذ المواشي وتأمينهم.

هناك يبلغ الصبي الحلم، وتخطط والدته لزواجه من أربع نساء حفاظًا على النسل، وتموت إحدى زوجاته (سهيلة) أثناء ولادة ثلاثة توائم. تكتشف العائلة كنزًا خبأه جنود عثمانيون أثناء انسحابهم من سوريا، ويصبح خالد من أكبر أثرياء مدينة حلب.

الرواية تتناول أسس التفاعل الإنساني عبر ثلاث مقاربات: الأولى وجودية؛ الصراع من أجل البقاء كما في الغزو، ومواجهة الذئاب. الثانية رمزية؛ الطين رمز للأرض والجذور والعودة إلى الأصل. الثالثة؛ السرد المتعدد الذي يسعى لإعادة كتابة التاريخ قبل اندثاره، من خلال شخصيات مثل الأم، العمة، وخالد.

المال في الرواية ليس مجرد وسيلة، بل أداة بقاء، فالمواشي والكنز مكّنا العائلة من التحول من حياة البداوة إلى الحياة الحضرية، حيث امتلك خالد العقارات وبيوت حلب. هذا يدفع للتساؤل: هل ترمز الرواية لتحوّلات المجتمع السوري نحو المادية؟

تُجسد شخصية “بسام” هذا التحول، فهو شاب درس الطب في بريطانيا وتأثر بالحياة المادية الغربية، وعاد إلى سوريا بعقلية جديدة. يظهر ذلك حين تُحرث المقبرة القديمة في القرية لاستثمار كل شبر فيها.

شخصية الأم تمثل الخير والصرامة في آن، فهي مستبدة في قراراتها، لكنها أيضًا حنونة، شخصية تجمع النقيضين. تظهر مواقف حاسمة لها حين تمردت النساء عليها خلال اللجوء، لكنها استعادت السيطرة بقوة، وفرضت الانضباط.

البيئة المحلية حاضرة بقوة، عبر استعارات أصيلة: البشر يشبهون “شجرة الطرفة” أو “عيون الغراب”، مما يرسّخ مصداقية السرد. وشخصيات مثل حجي صطوف، المعمار الذي فصل قبب المعيشة عن قبب الدواب، تؤكد دقة التفاصيل.

الكاتب يتعاطف مع القارئ فلا يتركه في ضياع، فالمآسي دائمًا يقابلها بصيص أمل. تموت سهيلة، لكنها تترك ثلاثة توائم. تُغزى القرية، ثم يُكتشف كنز. الرواية تطبق مبدأ قرآنيًا عظيمًا: “إن مع العسر يسرا”.

في النهاية، يجتمع خالد وبسام في فيلا فخمة بحلب، تُقدم لهما مدبرة المنزل مشروبات فاخرة، لكن الذاكرة تستدعي صورة الماضي القاسي، والطفل الذي كان يزحف بالطين، يشرب من الساقية، ويعيش القهر.

رواية “أبناء الطين” ليست مجرد سرد لحكاية، بل وثيقة أدبية تحمل همّ الإنسان والمكان، وتعكس تحولات المجتمع من الطين إلى البورسلان… لكنها لا تنسى أن الطين أصل.

Scroll to Top